فتوح أوروبا (3).. فتح الأندلس
كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
ففي العام الخامس والثمانين من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ التقى أمير مصر "عبد العزيز بن مروان" والد الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز" بأخيه أمير المؤمنين "عبد الملك بن مروان", واستأذنه في أن يعزل "حسان بن النعمان" عن إمرة الجيوش الإسلامية في الشمال الإفريقي, وأن يلقي هذا العبء الثقيل على كاهل صديقه ومشيره "موسى بن نصير", فلم يرتح "عبد الملك" لذلك التدبير لعظيم ثقته بقائده "حسان", وبلائه في قتال البربر والروم في الشمال الإفريقي, لكن أمير مصر أصر على طلبه ووقف عنده, واستمسك به, فما لبث خليفة المسلمين أن استجاب له.
وما كاد موسى بن نصير يتلقى أمر الخليفة بتوليه على الشمال الإفريقي حتى بدأ في وضع خططه, وإعداد جيشه, وتكتيب كتائبه, وتسمية قواده, وقد عقد العزم على أن ينجز ما عجز عنه أسلافه -بإذن الله تعالى- من إخضاع البربر, وقمع ثوراتهم, وتوطيد الأمر في الشمال الإفريقي, وإكمال مسيرة الجهاد في سبيل الله -تعالى- واستكمال الفتوح, وكان حريصًا أشد الحرص أن يجعل في كل كتيبة مقاتلين خاضوا المعارك في الشمال الإفريقي نفسه وعرفوا مداخله ومخارجه, ووقفوا على مكايد الأعداء وحذقوا أساليبهم في القتال, وقرر أن يسند القيادات إلى ذوي الحمية والطاعة والذكاء ممن جاوز طيش الشباب, ولم يدخلوا في دعة الكهول, وأن يجعل أولاده من جملة قواده, وأن يضم إليهم أبناء الشهداء الذين ثـُووا تحت كثبان الرمال في تلك الديار شهداء في سبيل الله.
فعقد أربعة من ألويته لأربعة من أولاده, وعقد ثلاثة أخرى لثلاثة من أبناء عقبة بن نافع, وعقد ألوية غيرها لطائفة من أبناء البلاد أسلموا طائعين, وآمنوا مختارين, وغدا الإسلام أحب إليهم من نفوسهم التي بين جنوبهم, وفي طليعتهم مولاه "طارق بن زياد" -والمولى هو التابع الذي كان رقيقـًا له ثم أعتقه-, ثم أطلق كتائبه دفعة واحدة في اتجاهات متعددة بعد أن حدد لكل كتيبة قبيلة من القبائل الثائرة, أو عصابة من العصابات الناكثة الغادرة, أو قلعة من القلاع المستعصية, فأفاقت إفريقية ذات صباح, فإذا بالأرض تتزلزل تحت أقدامها في كل مكان, وشعر "الروم" و"البربر" معـًا أن دمًا جديدًا سرى في عروق المسلمين, وعزمًا عتيدًا نبض في أعصابهم, وقيادة حازمة أحكمت أمرهم, وقد شغلتهم الجائحة التي عمتهم جميعـًا عن أن ينصر الحليف حليفه أو أن يعين الأخ أخاه, فلكل قبيلة يومئذ خطب يرديها وشأن يغنيها.
وكان "موسى بن نصير" موزعـًا على القيادات كلها متصلاً بها جميعـًا لا تفوته حركة من حركاتها, ولا يغيب عنه تصرف من تصرفاتها, وما هو إلا قليل حتى توالت الانتصارات, وتساقطت الحصون, واستسلمت القبائل, وسيقت الغنائم تلو الغنائم على وجه فاق خيال المتخيلين, وجاوز حساب الحاسبين, ومضى المبشرون من "القيروان" إلى "الفسطاط" في مصر يحملون إلى أميرها "عبد العزيز بن مروان" أخبار النصر الكبير, فما إن تلقى الأمير بشارتهم حتى خر ساجدًا شكرًا لله واهب النصر, وكان المبشرون يحملون إلى أمير مصر كتابًا من موسى بن نصير يثبت فيه ما نقله الرجال من أخبار, ومع الكتاب بيان بنصيب بيت مال المسلمين من الغنائم وهو ثلاثون ألفـًا من الرقيق.
فلما همَّ "عبد العزيز بن مروان" بإرسال كتاب موسى بن نصير إلى الخليفة استكثر هذا العدد, وخشيَ أن يكون كاتب موسى بن نصير قد زل قلمه, أو أخطأ في الحساب فزاد في عدد الرقيق زيادة لا يصدقها عقل, فأرسل إلى موسى بن نصير يستوضح منه العدد؛ لأنه لا يكون كذلك إلا إذا بلغت الغنائم مائة وخمسين ألفـًا من الرقيق, ولعل الكاتب قد أدركه السهو, فكتب موسى بن نصير حقـًا لقد سها الكاتب, وزل قلمه، فحصة بيت المال من الرقيق ليست ثلاثين ألفـًا, وإنما هي ستون ألفـًا.
وكان موسى بن نصير لا يفتح البلد من البلدان إلا ويبث فيها الدعاة الذين يدعون الناس إلى الإيمان, ويعلمونهم القرآن, ويؤدبونهم بآداب الإسلام حتى خضعت بلاد المغرب على يديه, وأصبحت قوة من أعظم قوى الخير, وسلاحًا من أمضى أسلحة الجهاد في سبيل الله. ولما تم لموسى بن نصير فتح بلاد المغرب, ورفع رايات الإسلام فوقها وجد نفسه يقف وجهًا لوجه أمام بلاد الأندلس -إسبانيا حاليًا- لا يفصله عنها إلا مضيق ضيق, وكان يجلس على عرش الأندلس "لذريق" الذي سار في قومه سيرة فاسدة, ولم يرع لعماله حرمة, فغدر بابنة "يوليان" أحد كبار ولاته, فأقسم "يوليان" على أن ينتقم منه لشرفه المغصوب, وعرضه المسلوب, وكان يوليان واليًا على "سبتة" وكانت "سبتة" إذ ذاك ثغرًا إفريقيًا تابعـًا لملك الأندلس, فاتصل يوليان بموسى بن بصير, وأغراه بفتح الأندلس, وبَصًّره بمواضع الضعف فيها, ووعده بأن يضع سائر طاقاته في خدمة المسلمين.
ولم يشأ موسى بن نصير أن تضيع من يده هذه الفرصة, ولكنه لم يشأ أيضًا أن يركب المسلمين مراكب الغرر, فرأى أن يختبر صدق يوليان, وأن يسبر -يختبر- بلاد الأندلس بالسرايا المستطلِعة قبل أن يدفع إليها بالجيش الفاتح, فاختار مولى من مواليه من البربر يدعى "طريفـًا", وكان من أشجع الرجال, وأشدهم بأسًا وأصبرهم على القتال, فوضع تحت إمرته أربعمائة محارب ومائة فارس, وفي أوائل رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة عبر "طريف" المضيق المعروف اليوم بمضيق "جبل طارق", واستقر على الشاطئ الأندلسي في المكان الذي سمي بعد ذلك باسم "جزيرة طريف" تذكارًا لأول فاتح مسلم نزل في بلاد الأندلس.
أغار طريف برجاله على أرض الأندلس إغارات جريئة موفقة, وبث سراياه في أرجائها في شجاعة وإقدام مذهلين ثم عاد إلى قائده موسى بن نصير يقود السبايا الكثيرة, ويجر المغانم النفيسة الوفيرة, ويحمل المعلومات القيمة, ويبشر بإمكان الفتح, ويؤكد صدق يوليان. فعزم موسى بن نصير على الفتح, وجعل يبحث عن القائد الذي يُرَجَّى لمثل هذا الأمر العظيم, فنثر كنانة رجاله بين يديه, وعجم -اختبر- عيدانها ليرى أيها أصلب عودًا, وأقرّ مكسرًا فما وجد إلا فتى الفتيان "طارق بن زياد" المعروف بالثبات حين تنخلع القلوب, المشهور بالإقدام حين تحجم كبار النفوس.
وفي يوم مجيد من أيام سنة اثنتين وتسعين للهجرة؛ فصل طارق بن زياد عن البر الإفريقي بسبعة آلاف من الجند جلهم من البربر تحملهم أربع سفن كبيرة أعدت لذلك، فألقت السفن مراسيها عند الصخرة العتيدة القائمة على الشاطئ الأوروبي, والمعروفة اليوم في سائر اللغات الدنيا باسم "جِيبر التَّارْ" أو جبل طارق.
بثَّ طارق بن زياد عيونه في كل مكان, واستعان بخبرات يوليان فجاءته الأنباء بأن "لذريق" حشد له من الجند عشرة أمثال ما معه, وأعد للقائه من العدة ما لا قبل له به, فأرسل إلى موسى بن نصير يستنجده فأنجده بخمسة آلاف من عسكره, وبذلك بلغت عدة المسلمين في معركة الفتح الأولى اثني عشر ألفـًا من المجاهدين, وكان مما شد من أزر طارق بن زياد أنه كان حين يعبر البحر رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في نومه, وقد حفت به كوكبة من المهاجرين والأنصار وهم متقلدوا السيوف, متنكبوا القسي -يحملونها- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يناديه قائلاً: "تقدم لشأنك يا طارق"، ثم دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه إلى بلاد الأندلس, ودخل هو وجيشه وراءهم, فهب طارق من نومه فرحًا مستبشرًا, وأيقن أن هذا من الرؤيا الصالحة الصادقة, فقويت نفسه, واشتد فؤاده, ووثق من نصر الله.
وجمع "لذريق" جيشًا جرارًا مائة ألف مقاتل, وحشد فيه أمراء "القوط" وملوكهم وفرسانهم, ونزل الجيشان على مكانين متقاربين, فأراد لذريق أن يستطلع أحوال جيش المسلمين فندب لذلك رجلا يثق به, ويعرف نجدته وحذقه, ومضى رسول "لذريق" إلى غايته, فلما استشرفه -رآه- المسلمون وثبوا إليه فأطلق لفرسه العنان, وولى هاربًا, وأفلت من فرسان المسلمين بأعجوبة حتى بلغ معسكره خائر القوى, مقطوع الأنفاس, ولما سكت عنه الهلع قال للذريق: "خذ على نفسك أيها الملك -خذ الحيطة والحذر-, والزم الحذر على ملكك وجيشك, فقد جاءك من لا يريد إلا الموت, أو إصابة ما تحت قدمك".
وفي صبيحة الثامن والعشرين من رمضان سنة اثنتين وتسعين للهجرة كان لذريق يتجه للقاء طارق بن زياد وهو في عجلته الحربية. قد نصب له فوقها سرير من ذهب, وعلى رأسه مظلة مكللة بالدر, مرصعة باليواقيت والزبرجد -نوع من الأحجار الكريمة-, وقد تحلى بأبهى حلة, وتزين بأتم زينة, وقد أحاط حرسه بعربته إحاطة السوار بالمعصم, وحف به مائة ألف من جنوده وفي الجبهة الأخرى طارق بن زياد يدق بقدميه الأرض بارزًا صدره, مصلتـًا سيفه, واقفـًا على نشز -مرتفع- من الأرض يخطب جنوده خطبة الجهاد المشهورة: "أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم, والعدو أمامكم, وليس لكم والله إلا الصدق والصبر".
وما إن أتم طارق خطبته حتى كان جيش الإسبان الكثيف يقترب من ساحة المعركة في بطء ويتهادى إليها في خيلاء, فقد كان مائة ألف, وجيش المسلمين اثنا عشر ألفا, ثم التقى الجمعان ودارت بينهما رحى معكرة ضروس دامت ثمانية أيام أبدى فيها المسلمون من ضروب البطولات وصنوف التضحيات, وفنون الحرب ما لا يزال يذكره التاريخ في أروع صفحاته, ثم انجلت المعركة عن نصر مؤزر أعز الله به أولياءه, وهزيمة منكرة أذل بها أعداءه. فولى لذريق الأدبار وانفسح الطريق أمام طارق وجنده, ومنَّ الله على جنة الدنيا بلاد الأندلس بنعمة الإسلام ورفعت على رباها الشم راية القرآن, ولقبت بعد ذلك بدرة التاريخ, وكان منها "قرطبة" التي كانت تسمى عروس الدنيا, وكان فيها ما كان من عز ومجد، وفخر وعلم وحضارة للمسلمين. وقال طارق بن زياد في فتح الأندلس:
ركبنا سـفـنـنا بالـمـجاز مـقـيـرا عسى الله أن يكون منا قد اشترى
نـفـوسـًا وأمــوالاً وأهــلاً بـجـنة إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا إذا نحـن أدركـنـا الـذي كان أجدرا
ونحن نقول اليوم:
عذرًا ربى المجد إن القوم قد هانوا وإنهم في أيادي المعتدي قد لانوا
عـذرًا فـما ردهـم عـمـا يـحـاك لهم وعــي ولا ردهــم ديـــن وقـــرآن
عــذرًا فــأروقـة الأحــزان حـافــلـة وسـاحـة الـفـرح المـقـتـول قيعان
عــذرًا فـبحـر المآسي لم يزل لجبًا يـمـوج فـي مـائـه قـرش وحيتان
عــذرًا فــإن بــلاد العـرب لاهــيــة تـضـج فـي صدرها عبس وذبيان
فاللهم انصر الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر أعداء الدين, وحرر بلاد المسلمين.
وصلي اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
للاستزادة:
الطريق إلى الأندلس د/ عبد الرحمن رأفت باشا
ري الظمآن د/ سيد العفاني
البداية والنهاية للإمام ابن كثير